أرض الجزيرة الخضراء بين الحق والحقيقة

أعده المهندس/ حسين عمر كشّه فى 2006

إستجابة لتشجيع إخوة كرام، ومساهمة مع من كتب من الشرفاء، ومداخلةً لتقرير أصدرته حكومة السودان مع البنك الدولى قبل عام على شبكة الإنترنت تدعوان فيه الى خصخصة ولامركزية مشروع الجزيرة بنية إصلاحه "Privatisation and Decentralisation Reform أعود لمواصلة الكتابة. فقد سبق أن كتبت على نهج مضى ترويجاً وترسيخاً لآفاق التصنيع الزراعى، وتفصيلاً لقواعد التكامل الزراعى والصناعى "Integration of Agro-Industries" التى كانت تُدرّس فى معهد التنمية الاقتصادية بواشنطن.

سوف تشمل الكتابه سرداٌ يتسع لتدقيق أحداث وأنشطة وسياسات وغايات ورؤى تُصور ماضى المشروع منذ تأسيسه وتمتد إلى حاضره ومستقبله مروراً بتطويره إلى نهضته و إزدهاره، عبر تنمية إقتصادية وإجتماعية كانت موجهة ومدروسة أضافت بسخاء إلى الناتج القومى العالمى.
أمامى كم هائل من المعلومات كأمواج البحر الأبيض المتوسط فى مد ترتفع نحو الشاطئ بهديرها ولآلئها ثم تنحسر وتعود فى جذر تستعيد فى نهايته طاقتها، لتعود مرة أخرى و تسير فى دورانها بلا إنقطاع.

لقد عايشت تلك الأحداث من الداخل، ورضعت من ثدى الجزيرة كل مقتبل العمر، وأسهمت فى تحقيق الأهداف المرحليه بالإنتماء والعمل من القاعدة إلى قمة الهرم على مدى يقارب ربع قرن من الزمان، حتى عام 1980.
بعد تخرجى من المشروع كنت وما زلت على مقربة من المعلومة و الحدث، وعلى بعد شاسع من صنع القرارات، والتى أقل ما يقال عنها لدى الحاويين على مستقبل المشروع أنها طمست هويته بالكامل وغيبت ما فيه من خلايا النحل تاركة نسيجها كأعجاز نخل خاوية. فعلى مدى ربع قرن آخر من الزمان تأرجح الحق ومعه الحقيقة وكاد أن يهوى من أساسه البنيان. وجنحت السفينة إلى ما لا تشتهى السفن.

سوف يكون هذا الكتاب جامعاًً تنساب وقائعه من الذاكرة والمذكرات فى منهجية موجهة لكل شرائح البشر وبموضوعية ترتكز على الحق والحقيقة ولا تستهدف أحداً بعينه إلا بقدر ما أراد ونوى وأسهم فى توجيه الحدث وصياغته سلباً كان أو إيجاباً، ثم يدرج فى نهايته إلى كيفية إستعادة الهوية وتوفير المقومات وترميم الأساس بعد أن يعم السلام وتضع الحرب أوزارها فى كافة أرجاء الوطن بإذن الله.

مشروع الجزيرة ملك للشعب وعلى الأمة كافة مراعاة وحدته وقوميته وتكامل حلقاته وحماية كيانه وتراثه وأنظمته، ووقف كل ما يثير الفتنة ويُحرّك غريزة الجشع لتفكيك أوصاله ومسحه من خريطة الوطن. ويخطئ من يظن ويعلن أن المشروع قد شاخ أو عموده الفقرى قد إنحنى ويحكم عليه بالإنهيار التام. فأرض الجزيرة الخصبة التى منّ الله بها على السودان لن تجدُب وستظل معطاة إلى يوم يبعثون رضى الشيطان أو أبى، ومياه النيل الأزرق تجرى كما هى ولا تشحُّ، وخزانا سنـار والروصيرص يتحديان بمخزونهما الذى يكفى لرى وزراعة المليون فدان دفعة واحدة عبر قنواتهما الرئيسية والفرعية التى ستظل شامخة وهى لا تحتاج إلا للقليل من النظافة والتطهير المعتاد، بعد إستئصال السعد والنجيل وأم برمبيطة والموسكيت. أفمن إستطاع أن يهندس الترع ويهندس إنسياب المياه إلى داخل الحيازات، لا يستطيع أن يقوم بترميمها لتحيى الزرع والضرع؟

السؤال المطروح من شاهد العيان ـ أيهما كان الأسبق على أرض الواقع بحساباته كمّاً وكيفاً، ميزاناً ومكيالاً، دولاراً وديناراً، ساعةً وزماناً ـ أهو الإنهيار المفتعل والمفترى عليه أم الإنهيار المفعول بخلط الأوراق وبعثرتها، وذلك الذى سبقه التشليح والتشليع والتفكيك والتشريد والتشويه وقهر الإرادة بالفتنة والإحباط ـ فلا إكتملت الخصخصة وأتت بالإعجاز ولا عادت السفينة إلى مرساها ومعها عاد المشروع لسيرته الأولى فى تقوىً من الله ورضوان.

هل جاء الإنهيار المفترى عليه بغتةً واحدةً أم بدأ التدهور تدريجياً فى ضؤ وعلى أثر غزو وتعديات مشهودة على المشروع وقانونه، غزو متواصل "جثم" على أكتافه وحبس أنفاسه، ونُقِل إليه سياسات لم يسبق تجربتها فى كيان مماثل له على مستوى العالم، ولم يتسع الوقت لتجربتها وتقييم نتائجها فى تفتيش درويش أو حقول شمبات أو حتّى قسم الماطورى مثلاً.

ليس غريباً أن تنشغل الحكومات بالحرب التى قضت على الليّن واليابس وعلى ملايين البشر، وأن تعجز لأن تولى المشروع الأهتمام الكافى وتتنبه إلى دقات الطبول. بل الغريب أن يأتينا مؤخراً مصلح زائر من الخارج ليحدثنا عن سنين عدداً لم يك فيها الأداء رابحاً، وأن عبء الدين على المزارعين بلغ 34 مليون دولاراً.، وأن الإدارة تلازمها المركزية، وتنقصها الفعالية، زد على أنها مكتظة بالعاملين. "Management is too centralised, inefficient and overstaffed". ويضيف: والبنيات التحتية للرى فى حالة تعزى لها ممّا شكل أحد أسباب تدنى الإنتاجية.
"The irrigation infrastructure is in serious despair, which is one of the causes of the low yields" Reference Country Report Appendix I.

والسؤال الوارد - متى صدر هذا الحكم، وعلى ما إعتمد، وكيف صدر، ومن ذا الذى أصدره، وأين هى الدراسات والدلائل التى تدعمه؟ وثم أين صُنِـع القرار؟ وكيف أتخذ القرار؟ ومن ذا الذى أصدر القرار؟ ليأتى بالدليل القاطع أن الحل فى خصخصة ولامركزية المشروع لرفع الإنتاجية!

حقيقة الأمر - لقد ضرب التدهور كل القطاع الزراعى بلا إستثناء رياً صناعياً كان أم فطرياً، وجاء الغزو لمشروع الجزيرة متأخراً لتماسك المشروع وصموده.

لقد تحدث أحدهم عن تبديد وإهدار المال العام كمدخل وإفتتاحية لإصلاح مصطنع، كمن يتحدث عمّا يسمى بالإرهاب اليوم، وهو أصلاً خالى وفاض لم يحتك بعد بإنظومة التحكم فى دورة المال فى إدارة المشروع التى لا تترك ثغرة لضياع مجرد تعريفة بواسطة ضعاف النفوس مهما وأينما كانت مواقعهم. ويقينى أن تبديد المال لا يقتصر على النقد وحده بل يشتمل على كل الموارد، وأى منها، لا سيما مورد الثروة البشرية الذى أهدر بلا حساب ولا هوادة.

"إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِْنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا". صدق الله العظيم.

لقد إتخذ مشروع الجزيرة من بناء الطاقة البشرية فى إداراته ومصالحه وأقسامه ووحداته عمالاً وموظفين بجميع تخصصاتهم إستراتيجية شاملة تمهيداً للسودنة وإعداداً لحمل المسئولية حتى بلغ المشروع قمة مجده وإكتظ بالكفاءات والخبرات بلا مُنازع - تدريباً وتأهيلاً وتجربةً وتنميةً متواصلةً من القاعدة إلى القمة بالداخل والخارج.

ويقينى أننى لم أشهد ولا أذكر أننى شهدت أن مشروع الجزيرة إستأجر مستشارين من الخارج
"Consultants of Management and Technology" إلا فى حالات نادرة عن طريق البروتوكولات الموجّهة من الخرطوم بين الدول لإدخال زراعة وصناعة الأرز فى المشروع بواسطة الصينيين، ولنقل تكنولوجيا زراعة الخضر وتسمين الخراف بواسطة اليوغسـلاف فى شمال الجزيرة مثلاً.

لقد قويت شوكة القيادات فى إدارة المشروع وأدرك جميعهم أن الإنجاز وحده لا يكفى فكان لا بدّ، جنباً إلى جنب، أن يولوا كافة أعمالهم الحماية علماً بأن المشروع نفسه ظلّ مستهدفاً منذ وقت طويل وفى أشد الحوجة لكتيبة الدفاع الأولى التى لم تخشى الصدام. وقد جاء التغول والتدخل والغزو القومى إبتداءً بإبعاد القيادات، كل القيادات، فى مستوى القمة .بإسم الصالح العـام. تشردّت وزهبت ثمانية وعشرين أسرة بطلقة واحدة. فقد نجح فى قلب المواعين لإرضاء جشع وطمع الكثيرين مقابل الخراب العام الذى عمّ كل مناحى الحياة من :ـ
بنيات تحتية وفوقية، وأصول ثابتة ومنقولة، وزرع وضرع، وقرى ومدن، ومرافق ومؤسسـات. وقد ذهب من ذهب قسراً أو طوعاً حاملاً معه نوط المرحطة وتاركاً فى ملفه لدى شئون الخدمة نوط الإنجاز والجدارة بشهادة وإصدار مجلس الإدارة. غابت القواعد والمسلمات والثوابت من :ـ
قانون ولوائح، وغايات وسياسـات، "Corporate strategies" وهياكل إدارية، وقومية، وإستقلالية، وعلاقات إنتـاج وتكافلية، ودورة زراعية متكاملة إلى آخره ونقصت الكرامات الإنسانية.

بنفس الكوادر الإدارية المنتجة فى الغيط والرئاسـة وبالتضامن الوثيق مع المؤسسـات الأخرى كالرى وهيئة البحوث الزراعية والحكم المحلى والصحّة والطاقة الكهربائية شهد المشروع التوسـع الأفقى بإضافة إمتداد المناقـل وغيره. وتضاعفت المساحة المروية إلى ما يزيد من الإثنين مليون فدان، وتحمّل الكل مع الأقسام والوحدات عبء التنمية الرأسية من تكثيف وتنويع بإدخال المحاصيل الأخرى فى الدورة الزراعية بجانب القطن والذرة. وبنفس الطاقة البشرية والآليـة إمتدّ التوسع لمواصلة التحديث والمكننة ولإدخال التصنيع الزراعى.

فقد أقيمت القشّـارات للفول السودانى بين الحقول، وشَكـّلتْ مراكز للتوسـع الصناعى، وعكستْ إشعاعاً حضارياً فى الريف وفتحتْ فرصاً للعمالة. وجذب الإنتعاش والرواج الناس من الحضر للريـف. وشارك المنتجون فى تحديد سعر بيع منتجهم وفى الرقابة على التقشير بسعر التكلفة وإستلموا الثمن بعايده المضاف مسبقاً من مكاتب التفاتيـش بضمانة إيصال التسليم. وكمثال آخر شُيـّدت مضارب الأرز فى أحد المخازن ببركـات، وتمّت زراعته وحصاده ونقـله بنفس صيغة التكامل الزراعى والصناعى فى إنتاج وحليج القطن، وعلى نفس نمط التنسيق القائم بين كافة وحدات المشروع ومزارعيه والمؤسسات المتضامنة مع إدارة المشروع إنتهاءً بالمؤسسة العسكرية التجارية المشترية للأرز المبيض.

وقد كان لمصلحة الزراعة وأقسام الهندسة الميكانيكية والمدنية والكهربائية أدواراً وعملاً مشتركاً رائعاً تخطيطاً وتنفيذاً يُحسـدون عليـه.

أفمن أسس وبنى وعمّر على تقوىً من الله ورضوان كمن حطـّم وخرّب؟ وقد كتب الكثيرون يتساءلون لمصلحة من تتوقف الحركة ويُزال البنيــان؟

لقد خلق الله بنى آدم لتعمير الأرض وفلاحتهـا وزراعتهـا ليكسونا ويطعمنا من جوع. وأمرنا بعبادته. ومارس أجـدادنا الزراعة كوسيلة للحيـاة. وسأل نبينا إبراهيم ربّه سبحانه وتعالى:-
رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ". صدق الله العظيم.

مع كل ما يتوفر له من حِـزَم ومدخلات وتقنيات فإن العمل الزراعى عرضة للربح والخسـارة ويستحيل التحكم فى مخاطره 100%، وبالتالى لا بدّ للحكومات (فى أوروبا مثلاً) أن تدعمه لتأمين الكسـاء والغذاء للبشرية، ولإعطائه القوة التنافسية فى التصدير، بعد حمايته من المرابين والسماسرة وخلافهم.

" أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ". صدق الله العظيم.

" وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ". صدق الله العظيم.

لعل الدعم عند الحاجة والصيغة التكافلية فى علاقات الإنتاج القائمة على الحساب المشترك يدرءان عن المزارع مخاطر الوقوع فى أعباء الديون عند تدنى الإنتاجية وتقيانه شرّ الزّج به فى السجون.

لقد كانت المسؤولية الوحيدة بعد التنمية على الحكومة ممثلة فى المالية وبنك السودان مدّ ُ المزارعين بالتمويل كجزء يسير من رأس المال العامل لعمليات الفتحية والتسريب واللقيط فى إنتاج القطن وحده. وقد كانت تتدفق فى سلفيات عبر إدارة المشروع وتُصرف فى مواقيت موحدّة من مكاتب التفاتيش فى الغيط للمزارعين مباشرة، كما كانت تُصرف الأرباح بعد خصم الحساب المشترك من العائد الكلى، لكلٍ يقدر ما رزقه الله عزّ وجل، وما قدّم من إنتاج ثم وزنه ونقله للمحالج بسكك حديد الجزيرة لوزنه مرة أخرى وفرزه ونظافته وحلجه وتعبئته شعراً وبذرة. بعد نجاح دام عشـرات السنين لمْلمت الحكومة مراكبها. ونفضت يدها كلية عن تمويل العمل الزراعى، مُوجّهة بأن يقوم ذووا المحفظة من بنوك وخلافه للتعامل المباشر والمنفرد مع المزارع، الذى فرضت عليه صيغاً من فوائد ضخمة لم يك من بينها القرض الحسن. فأصبح المزارع المسكين يصارع الموجَ والموجُ يصرعُهُ. وكما وصف أحد المواطنين أنه لم تتواجد فى رواكيب المزارعين لقمة العيش ناهيك عن العربة الكريسيدا. فذهب المزارع للسجن، وذهب الوسطاء والمنتفعون إلى غابات الأسمنت المسلح، وذهب المشروع نحو الدمار.

ولم ييئـس من تبقى من العاملين فى مشروع الجزيرة. ورضى المحافظ بمركز المدير العام. وقد شمّر وهو يجوب الفيافى ليحمل فى مركبه من كل زوجين أثنين منادياً بنداء نبيّنـا نوح – " وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ". صدق الله العظيم.

وما تصفحت جريدة الجزيـرة إلا ووجدت فى صفحتها الأولى الإشادة بالقبطان وبما أسموهم أركان حربه الكرام، وكلهم فى نضالٍ تجرى بهم مِركبُهم فى موج كالجبال من جراء السياسات المبتورة والجرعات المتقطعة من المنومات. ولا عجب فقد أكد لنا هؤلاء أن المشروع ما زال يوحى بالأمل، وسنظلُّ واعداً أبداً. ونسأل الله لهم التوفيق والثبات للخروج بالمشروع إلى برّ السلامة.

أولم يزف الوقت لأن تعود الحكومة بمراكبها، وتعالج ما وقع من خلل أوشك أن يطيح بالمشروع بسبب السياسـات العشوائية. على الحكومة ان تتدخل الآن لمراجعة الوضع برمّته حتى لا تتعرض حقوق الجزئية والوطن للضيّـاع، والمواطنين من زراع وغيرهم للخطر.

يؤسفنى أن اذكر أننا لسنا فى حوجة لمؤتمرات ولجان ولمستشارين زوّار لم يخوضوا التجربة بهذا الحجم والشكل، ذلك أننى أؤمن بأن الجمرة تحرق الـ واطيها، وأنّ أهل مكة أدرى بشعابها، وأن السياسات تنبع من واقع الحال، وأن القرار يصنع ويجلل، ويُدعم بالدليل، ويُتّخذ، ويَصدُر برضـاء الكل وحتى إذا لزم الأمر يتم عبر الإستفتـاء – القرار المدعوم بالدراسات الإقتصادية والإجتماعية المفصّلة وبالتجربة "Piloting" وبحسن النيّة وقوة الإرادة، وبتقوى من الله ورضوان. ويتعين على المؤسسات المدنية وفى مقدمتها إتحاد مزارعى الجزيرة والمناقل القيام بالدور المنوط بها فى الوقوف مع الحقّ والحقيقة لإعادة تعمير كل شبر من أرض المشروع، ولمساندة كل فرد من المزارعين، ولتمكين الإدارة من القيام بدورها هى الأخرى لتحقيق الغايات المرجوة وحماية المشروع.

محاور البحث

فى مسيرته الطويلة بعد تأسيسه مرّ مشروع الجزيرة بثلاثة مراحل زمنية تجاوزت فى مجملها الخمسة وسبعين عاماً.

  من إلى  
الأولى 1925 1950 تحت إدارة الشركة الزراعية
الثانية 1950 1980 تحت إدارة مجلس إدارة الجزيرة
الثالثة 1980 2004 تحت إدارة مجلس إدارة الجزيرة

لقد توسع المشروع أفقياً ورأسياً فى المرحلتين الاولى و الثانية حتى بلغ قمة مجده وإزدهاره. ثم بدأ التدهور فى إزدياد تدريجى فى مرحلته الثالثة حتى أوشك على الإنهيار.

لقد أنشـأ المستعمر الأنجليزى و المصرى مشاريع إستثمارية تكاملية ضخمة ناجحة فى السودان. وقد إستعان بكوادر من الخبراء وألاداريين من خريجى الجامعات المشهورة لندن وكيمبرج وأكسفورد وأدنبره فى إنجلترا وأسكتلاندا. وبحق كان هؤلاء يمثلون عظمة بريطانيا. فقد وضعوا برامج عمل تنموى إقتصادى وإجتماعى موسع ومتكامل ، أخضعوه لما أثبت جدواه من المسوحات والتجارب و دراسات الجدوى. ووظف له المستعمر المال اللازم. وشرع جدياً فى تنفيذه منذ ما قبل عام 1900. وفى نفس الوقت إستعان بقاعدة عريضة من المواطنين السودانيبن ولم تواجه المشاريع أي عقبات سوى الحرب العالمية الأولى التى تسببت فى شىء من التعطيل.

نذكر من المشاريع ما يلى:

التعليـــم: 
كلية غردون إلى جامعة الخرطوم
المعهد الفنى إلى جامعة السودان
معهد شمبات الزراعى
ثانويات حنتوب، ووادى سيدنا، وخورطقت
أميريات وسطى مدنى، الخرطوم، وبورتسودان

النقل: سكك حديد السودان

الخدمه المدنيه: القضاء، مؤسسات الأشغال P.W.D. ، النقل الميكانيكى M.T.D. والحكومة المحليـة

الزراعه: خزان سنار، هيئه البحوث الزراعية ، الرى، مشروع الجزيرة.

الشركة الزراعية Sudan Plantation Syndicate

لقد عُهـِدَ مشروع الجزيرة فى مرحلته الأولى للشركة الزراعية فقد تمّ تجربة زراعة القطن فى الزيداب، وطيبة وأم سنط بالرى بالطلمبات من النيل الأزرق. وجاءْت النتائج مشجعة. وأوضحت المسوحات أن تربة أرض الجزيرة خصبة بصفة عامة وأنها منبسطة ومنسابة من الجنوب إلى الشمال فى محازاة النيل ألازرق .

لقد إكتمل تنفيذ خزان سنار فى 1924 وتبعه شق ترعة الجزيرة الرئيسية لتحمل المياه من خلف الخزان بالرى الإنسيابى عبر الترع الفرعية والقنوات الصغيرة وأبوعشرينات إلى داخل الحيازات التى قسمت إلى حواشات ذات الأربعين فداناً فى مساحة حوالى المليون فدان فى مجملها سُمِّيت بمشروع الجزيرة. وإكتمل المشروع بكل المقومات والبنيات الأساسية، كما إكتملت معه المؤسسات المتضامنة والمرافق الخدمية منذ 1925. لقد صحب ذلك بعد أن توفرّت أسباب الحياه ثورة إجتماعية داخل المشروع وحواليه. فقد أنشئت وتوسعت القرى والمدائن بأسواقها وحدائقها وثروتها الحيوانية، ووسائل الأمن والنظام بتوجيه وإشراف مباشر من الحكومة المحلية وعلى رأسها مدير مديرية الجزيرة البريطانى الجنسية. وقد دعمت الشركة الزراعية تلك الخدمـات من عائد القطن.

عملت إدارة الشركة الزراعية فى التنمية وفى إنتاج القطن والذرة. وتحمّل البريطانيون إدارة الأقسام والتفاتيش فى الغيط والرئاسة وفى هيئة البحوث الزراعية بوادمدنى عاصمة الجزيرة.

وكان على رأس إدارة المشروع فى بركات محافظ بريطانى وعلى قمة إدارة السكك الحديد فى عطبرة مدير عام بريطانى. ويأتى كلاهما فى المرتبة الثانية بعد الحاكم العام للسودان لمواقعهما من أهميه قصوى. وكان نجاح المستعمر باهـراً فى تحقيق التنمية والغايات حيث وُفـِّرت خـامة القطن لمصانع النسيج فى لانكشير بإنجلترا من قطن السودان، والذى تم نقلة بسكك حديد السودان من محالج الجزيرة فى مارنجان والحصاحيصا (علماً بأن مشروع سكك حديد السودان إكتمل تنفيذه فى 1902) إلى بورتسودان الميناء الرئيسى للسودان.

مشروع الجزيرة

كان الشعب السودانى بأسره، لواء أبيض وطلاب وخريجون، وزراع وتجار يدعون للإستقلال. وقد خرجت مظاهرات سلمية من الجامعات والثانويات تنادى بخروج المستعمر. فقد تم تكوين الأحزاب والمؤسسات الحكومية. وساد جو من التفاهم بين المستعمر والقيادات السودانية هيأ البلاد إلى الديمقراطية الحرة الآمنة. فمن جانب وقف السيٍّد الإمام عبدالرحمن المهدى رحمه الله ومعه حزب الامة بقيادة السيٍّد محمد أحمد محجوب رحمه الله، ومن الجانب الآخر وقف السيٍّد الختم على الميرغنى رحمه الله ومعه الحزب الوطنى الإتحادى بقيادة السيٍّد إسماعيل الأزهرى رحمه الله - وأجمعوا على كلمة واحدة هى حياة الإستقلال من داخل البرلمان مستبعدين وحدة وادى النيل لإختصار الطريق.

ولمّا كان للسودانيين قدرات هائلة، ولمّا إكتمل البنيان بارح المستعمر من غير أن يفك طلقة واحدة. خرج راضياً لما قدَّم للسودان وتاركاً إقتصاداً قوياً وأساساً سليماً وأنظمة رائعة ضمتها الخدمة المدنية الراقيـة.

خرج الجنود البريطانيون من سكناتهم (البراكس) فى إمتداد جامعة الخرطوم على النيل الازرق تحت الكبرى وانتقلوا بقطارات السكك الحديد من محطة الخرطوم إلى بورتسودان بكل هـدوء وفى منتهى النظام.

فقد نال السودان إستقلاله وتم رفع العلم عالياً فى عام 1956. ومتـّع الله الشعب السودانى بالإستقلال والحرية والتأميم والأمن فى وقت واحد، بجانب السلطة والسيادة الكاملة.

لقد صدر قانون مشروع الجزيرة فى سنة 1950 المعدّل 1960 والذى بموجبه تم تأميم المشروع وسلم لمجلس إدراة الجزيرة برئاسة رجل الاعمال المشهور السيٍّد عبد الحافظ عبد المنعم رحمه الله. وعُيـٍّن السيٍّد مكى عباس رحمه الله أول محافظ للمشروع لما عرف به من كفاءة وخبرة. جاء قانون مشروع الجزيرة شاملاً منح المجلس لإستقلالية الكاملة والتبعية للوزير المختص والذى كان آنذاك وزير المالية الذى حافظ بالتمثيل فى مجلس الإدارة على قومية وإستقلالية المشروع ودعمه مالياً من بنك السودان حسب القانون واللوائح والنظم فى مجالات التنمية الإقتصادية والإجتماعية بجانب إنتاج المحاصيل الزراعية مما مكـّن من تطوير المشروع أفقيا ورأسيا وتحديثه ومكننته وتكثيف وتنويع المحاصيل فيه إنتهاء بالتصنيع الزراعى.

ويجدر بالذكر أن صاحبة الجلالة الملكة اليزابيث الثانية، فى لفتة بارعة وحدث تاريخى، جاءت فى زيارة لمشروع الجزيرة فى سنة 1964، ولاشك أنها سُـرّت بالماء والخضرة والوجه الحسن وبالمدى الذى حمل به السودانيون الأمانة للأمام حتى وُصِفَ المشروع بالعمود الفقرى لإقتصاديات البلاد، كما وُصِفَ بأنه أكبر مشروع زراعى تحت إدارة واحدة فى العالم يسير بإنتظام منقطع النظير.

"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ". صدق الله العظيم.

بعد رحلة التعليم فى السودان التى بدأت بالأولية فى كسلا، والوسطى الأميرية فى مدنى، والثانوية فى حنتوب شرق مدنى على النيل الأزرق، تخرجت فى 1957 دفعة الثمانية من كلية الهندسة جامعة الخرطوم. وقد كان أمام كل منّا عدّة خيارات حيث تنافست علينا المؤسسات، والسودنة على الأبواب، وهى تعتبر مؤسسسات قومية بمعنى الكلمة. فإلتحق إثنان منّا بالسكك الحديد، وآخران بكلية الهندسة، وإثنان كنت أحدهما بمشروع الجزيرة، وسابعنا إلتحق بالأشغال، والثامن هاجر إلى أمريكا حتى يومنا هذا.

كانت عطبرة فى شمال السودان تمثل المركز الرئيسى لسكك حديد السودان – إدارة وورش وعمال. تبارحها القطارات شمالاً عبر تقاطع هيـا إلى بورتسودان، وجنوباً مروراً بالخرطوم - مدنى - القضارف - كسلا ـ تقاطع هيـا إلى بورتسودان، حيث تكتمل الدائرة. هنالك قطارات البضاعة وتانكرات البترول وقطارات الركاب التى سُميت مشترك القضارف من الخرطوم إلى كسلا، ومشترك بورتسودان من الخرطوم إلى بورتسودان. كانت درجات الركاب الرابعة والثالثة والثانية والأولى والنوم تقدّم الخدمة بأسعار متواضعة. أذكر أن التلميذ مع صغر سنه يركب درجة رابعة من كسلا إلى وادمدنى بنصف تذكرة كان ثمنها فى الأربعينيات ثلاثة وثلاثون قرشاً فقط، إلا أن مثل هذا المبلغ لم يك يتوفر لدى كل أسرة. كنت أقضى إجازاتى المدرسية مع أسرتى فى كسلا رحمهم الله مستغلاً مشترك القضارف أو بورتسودان من مدنى ـ حنتوب ومن الخرطوم ـ جامعة الخرطوم. كان القطار ممتعاً والرحلة آمنة وجميلة فى الذهاب والإياب. ينطلق من مدنى الساعة 7 مساء ليصل كسلا الساعة 10 فى صباح اليوم الثانى. كان القطار يتوقف فى كل محطة بضع دقائق من مدنى إلى مارنجان (حيث محالج مشروع الجزيرة) ثم بركات رئاسة المشروع إلى وادالنو والعقدة والحاج عبدالله ثم وادالحداد إلى سنار التقاطع. ومن الشباك على الجنب اليمين ترى مشروع الجزيرة يمتد فى خط موازٍ للنيل الأزرق وتشاهد الزرع الشتوى والصيفى كلما عبثت به نسمة إخضرّ وإضطرب.

كيف لا وكل هذه الروعة على إمتداد البصر فضلت الإلتحاق بمشروع الجزيرة القومى فى وظيفة مساعد المهندس تحت التدريب فى أدنى السلم، وكل المواقع إلا القليل منها كانت مُنَجْلزة.

فى 1958 إنبعثنا إلى إنجلترا لمزيد من التعليم على نظام الـ "Sandwich course" حيث أمضينا قرابة الأربع سنوات بين المصانع فى التدريب العملى والكليات فى علوم الهندسة الميكانيكية والإنتاج الصناعى وإنتهاءً بعلوم الإدارة الصناعية للتأهيل لزمالة جمعية المهندسيين الميكانيكيين. فأمضيت إثنين وعشرين عاماً دون توقف فى تلقى التعليم. ثمّ عدنا لتحمل المسئولية أضعاف ما كان يتحمله زملاؤنا فى إنجلترا. وكان التوجه حراً ونزيهاً ونظيفاً، والعمل إنتاجاً وتنميةً، تخطيطاً وتنفيذاً لا يترك لنا زمناً يضيع ولا حتّى مجرد الإنشغال بما يبتغيه الآخرون خارج ساحة العمل. فإكتملت السودنة وآخر ما تم سودنته موقع الباشمهندس الميكانيكى "Chief Mechanical Engineer CME" الذى سبقنا فى شغله المهندس بابكر أيوب القدال أطال الله عمره، وبعده العبد لله، ثمّ تبع المهندس محمد بشير محمد على شوقى أكرمه الله. وتدرّج ثلاثتنا موزعين على الهيكل الهرمى للمشروع فى الوظائف القيادية العليا. لقد مكنّا من جاء بعدنا من الجامعات أو المعهد الفنى بالتدريب والكورسات المماثلة فى الخارج. وأتيح لهم طريق الزمالة. ولدى عودتهم شغلوا مواقع رؤساء الأقسام وتحملوا الأعباء إلى أعلا السلم الوظيفى فى الهياكل المهنية. وضمّتنا جميعاً نقابة "فرعية" واحدة مهندسين وفنيين وذوى الخبرة، كما ضمّتنا المساواة وعدم الفوارق فى التنظيم الإدارى الذى أعطى كل ذى حق حقه على إيقاع النهج الذى تمّ رسمه بالتعاون الوثيق مع إدارة شئون الخدمة فى ضؤ اللوائح المستمدة من سياسات مجلس إدارة الجزيرة والتوازن المتناغم لكافة المستويات فى إدارة المشروع بالرئاسة والغيط.

أرض الجزيرة والمناقل

يلتقى النيلان الأبيض من الجنوب شمالاً والأزرق من الشرق شمالاً فى المقرن بالخرطوم عاصمة السودان. وتمتد أرض الجزيرة من المقرن جنوباً بين النيلين مئات الكيلومترات. كان يزرعها أجدادنا بالرى المطرى بالتركيز على زراعة الذرة الذى يكمل الطبق الرئيسى للطعام. يمكن الرجوع للخريطة الملحقة Appendix II .

توضح الخريطة إمتداد شبكة السكك الحديد من عطبرة لبورتسودان شمالاً ومن عطبرة للخرطوم. مدنى وسنار جنوباً ثم خطوط الطاقة الكهربائية الهايدرولوجية من خزانى سنار والروصيرص للخرطوم. وشبكة الطرق التى أضيفت مؤخراً بعد أن تقلـّصت طاقة السكك الحديدية نقلاً وركاباً وغابت عنها خدمة الركاب جنوباً وشرقاً كلياً وأصيبت السكك الحديد هى الأخرى بالشلل. وتحول الإعتماد على النقل البرى والسفر بالأوتوبيسات عبر الطرق المزفلتة التى كان ينبغى أن تكون مكملة للسكك الحديد وليس بديلاً لها. معلوم أن تكلفة النقل على الكيلومتر طن بالقطار أقل بكثير من تكلفة النقل البرى وكذلك بالنسبة للسفر، وهى أكثر أمناً وإستقراراً على المدى الطويل لا سيما فى المسافات الطويلة (قطر ركاب واحد يساوى أكثر من ثلاثين أوتوبيس). ليس غريباً أن يلحق الفنـاء بالنقل الميكانيكى والأشغال وورش عطبرة والرى والجزيرة وباقى القطاع الزراعى إلى آخره لأن كل ذلك ظلّ مُطارداً بنفس العقلية والسياسات التى قضت على القوانين والنظم الهندسية والتى حوّلت أموال الصيانة والتجديد والإحلال والإستهلاك إلى مناطق أخرى تبدو أكثر أهمية وحيوية فى إطار سياسات رزق اليوم باليوم وعدم النظام والإنضباط ثمّ الإنفلات التام الذى أضرّ بإقتصاديات البلاد وتسبب فى تخلفها المريع. وليس غريباً أن يتبع ذلك غياب دور المهندس فى كافة المجالات الت أصبحت حكراً للمحظوظين فقط على مستوى القطر.

" وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ". صدق الله العظيم.

يبلغ عدد الأقسام بالجزيرة والمناقل أربعة عشر قسماً منها سبعة بالجزيرة وسبعة بالمناقل وإجمالى التفاتيش يفوق المائة، كما يفوق عدد المزارعين المائة ألف مزارع. فى رئاسة كل قسم مدير يساعده كاتب، وفى كل تفتيش باشمفتشفين ومفتش أول وثانى ومحاسب أول وثانى. يعمل المفتشون مع المزارعين فى الغيط طوال ساعات اليوم ويغطون كل الحواشات فى مرورهم وهم يشرفون عل كل العمليات الزراعية من تحضير الأرض وزراعتها وريها وحصاد المنتج بالأخص فى محصول القطن، كما يشرفون على المدخلات ومواقيتها من جازولين وسماد إلى آخره وعلى حسابات الصرف وذلك وفق الخطة الموحدة فى كتلوج الخدمة التقنية المعلق فى لوائح المكاتب بالغيط.

وهذا وقد بلغ سكان محافظة الجزيرة بين النيلين مليون نسمة يزداد فى موسم لقيط القطن والحليج إلى مليونين بالوافدين.

وعملاً بنفس إستراتيجية الإعداد والتدريب فقد تمّ إستيعاب كل هؤلاء بمعايير موحدة من أساتذة وخريجى الجامعات والثانويات وأقربها حنتوب شرق النيل. وتدرجوا فى سودنة الوظائف من مفتش ثالث إلى ثانى ثم أول وصولاً إلى مدير قسم. لقد تمّ سودنة هذا الكم من الطاقة البشرية الموزعة بمنتهى اللامركزية بالغيط. توضع الخطة فى رئاسة بركات بالإدارة الزراعية فى مجالات الإرشاد الزراعى ومكافحة الآفات وإكثار البذور ومع كافة الأعباء المتعددة بالتنسيق مع الإدارات الأخرى داخل المشروع وخارجه منها مؤسسات الرى وهيئة البحوث الزراعية إلى آخره. هذا وتشارك الأقسام الأخرى المتخصصة مفتـّشى الغيط على الأرض بنفس اللامركزية كسكك حديد الجزيرة والمحاريت والآبار وفروع إدارة الخدمات الإجتماعية فى الأعمال الهادفة لتحقيق الغايات المشتركة. ونهج لامركزية العمل فى الغيط مقيّد بالتحكم فى زمام الأمور حسب النظام بواسطة الرئاسات صعوداً إلى مجلس الإدارة. توجد متابعة من الرئاسة وتخطيط مشترك وتنفيذ فى مستوى الغيط.

الحديث عن مركزية الأنشطة وعدم الكفاءة فى الأداء لايصدر إلا مِمّن يجهل التكافل والترابط القائم بين الإدارات والأقسام فى مشروع الجزيرة وهو تشخيص سهل وخاطىء لتسبيب التدهور فى المشروع ولتدنى الإنتاجية فى وقت ما. زد على أنه تشويه لا يكفى وحده لتبرير تفكيك هذا الكيان المتماسك بالخصخصة، وإتهام باطل وجائر يستحيل الإتكال عليه من غير محاسبة وأدلة قاطعة لتبديد تلك الثروة البشرية وللتلاعب بما تم بناؤة من قدرات على مدى ما يزيد عن الخمسين عاماًًً، ناهيك عن إهدار حقوق الضحايا من المشردين وقهر كراماتهم الإنسانية من غير وجه حق.

أنظمة إدارة المشروع والمؤسسات المتضامنة

سبق أن أُوضِحَ أن محافظ المشروع يأتى فى المرتبة الثانية بعد حاكم عام السودان لما لمركزه من أهمية فى توجيه العمل الزراعى الذى أُوكِل لإدارة المشروع التى تعمل فى تضامن تام مع مؤسسات أخرى فى مقدمتها المزارعين فرادى وصموده ومجالس إنتاج فى الغيط وإتحاد منتخب يمتلهم ومقره فى مدنى عاصمة مديرية الجزيرة. جدير بالذكر أن معظم المؤسسات المتضامنة ممثلة بمندوب أو أكثر كأعضاء فى مجلس إدارة الجزية، وأن إتحاد المزارعين بداء كحركة ذات حق شريكة فى الزرع وعائد جوالها فى الأرض نصيب بصفة إيجارية أوملكية حرة. وبتمثيلها فى مجلس الإدارة بأكثر من عضو باتت شريكة فى إتخاذ القرارات الكبرى وفى بلورة السياسات. ومن جانبها تطورت فيما بعد الى حركة إقتصادية متعددة الأغراض.

من الجانب الآخر الحكومة تمثل حق الشعب السودانى فى قومية المشروع وكيفية تأسيسه وبنائه بالأصول الثابتة والمنقولة والبنيات التحتية والخدمات الإجتماعية الممتدة بين القرى والمدن وبما واكب ذلك من إعمار وحضارة وثقافة وتاريخ إمتد إلى ما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن من الزمان.

والسؤال الذى يفرض نفسه ـ كم بلغ حجم الإستثمار فى هذا الصرح الكبير؟ وكيف ستجيىء قسمة الثروة فى ضوء ماهو معلوم من حقوق مثبتة وواضحة؟

لاشك أن هذا الثالوث ـ الحكومة والمزارعين وإدارة المشروع لدى الإعتراف بتوسيع قاعدة الملكية يشكل الجدار الواقى للشركاء الثلاثة وهم أصحاب الحق على أقل تقدير فى توزيع صافى العائد حسب المعادلة التى كانت سارية على نظام الحساب المشترك التكافلى، وذلك متى ما أدرك كل منهم حقوقة وواجباتة بل وقدراتة بعين الحق والحقيقة على اساس :ـ

"لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" صدق الله العظيم.

كما لإدارة الرى دورمحورى فى التنمية والإنتاج فى مشروع الجزيرة فقد تم توطين وكيل الوزارة وإدارته بمدنى بينما يقع مقروزير الرى و الموارد المائية بالخرطوم عاصمة السودان.

يستهلك مشروع الجزيرة حصة كبيرة من نصيب السودان فى مياه النيل بالرى الصناعى و تعمل وزارة الرى على توفيرها وضبطها فى مواقيت محكومة بطاقة تكفى بإرتياح لتسقى ما يزيد عن الواحد مليون فدان صيفاً و شتاءً من دون إختناقات فى مواعيد الزراعة.

تقوم إدارة الرى بأعمال ضخمة ذات طابع هندسى بحت فى مشروع الجزيرة. وتعمل فى تنسيق مباشر مع المزارعين على الأرض و مع إدارة المشروع بالغيط والرئاسه منذ وضع الخطة وتطبيقها حسب الدورة الزراعية والتركيبة المحصولية الموسمية على النحو والقصاءات المعنية.

تستخدم وزارة الرى من القاعدة للقمة مهندسين من كافة التخصصات و تقوم بإعدادهم للقيام بهذا الدور الكبير على مستوى القطر، إضافه على حق الوطن فى مياه النيل وحسن إستقلاله بالتنسيق مع دول المصدر والمصب. وبحكم أنها وزارة هندسية فهى تحافظ على كوادرها بما تمليه أخلاقيات المهنة وعلى حقوقهم و كرامتهم.

ولهيئة البحوث الزراعية دور أساسى (رئاستها فى مدنى) فى توفيرالمعرفة لكل العمليات الزراعية بمواقيتها وللمعاملات فى كل المحاصيل بمشروع الجزيرة والمناقل لتحضير الارض بأبعادها، وكميات البذور وعيناتها، والتسميد والمبيدات إلى آخره.

بأقسامها المتخصصة تقوم هيئة البحوث الزراعية بإجراء التجارب فى حقولها الواسعة وتقدم النتائج فى شكل توصيات ملزمة لإدارة المشروع كما تتابع معها الإنبات فى نموه و رعايته وحصاده وتخزينه . وتتصدّر فى مؤتمر سنوى تقويم الآداء والإنتاجية.

وتمثل هيئة البحوث الزراعية الذراع الإيمن لوزارة الزراعة فى توجيه العمل الفنى ليس فقط فى مشروع الجزيرة بل فى القطاع الزراعى بأكمله، ولها محطات بحوث على مستوى القطر من أشهرها شمبات وأبونعامه. يرأس هيئة البحوث الزراعية مديرعام ولها مجلس إدارتها المستقل.

لقد ترك الإنجليز رصيداً ضخماً من المعرفة والعلم. وأعـدّت الهيئة كوادرها بتخصصاتهم المختلفة بين خريجى كلية الزراعة جامعة الخرطوم وغيرهم بالكورسات التى مكنتهم من الحصول على درجة الدكتوراة من إنجلترا وأمريكا. وهنالك نخبة من البروفيسورات فى البحوث الزراعية قدمت إنجازات فى البحث العلمى كانت من الأسباب الرئيسية فى تطوير مشروع الجزيرة، وتم نشر الكثير منها فى المجلات العلمية العالمية. ومع ذلك فقد لحق التدهور بالهيئة.

لعلّ الشكل أدناه يبرز مكانة إدارة المشروع والمؤسسات المتضامنة معها فى أعمال التنمية والإنتاج وفى العمل الإقتصادى والإجتماعى فى المشروع وعلى مستوى القطر:ـ

لقد ظلّ مشروع الجزيرة فى مرحلتيه الأولى والثانية يشكل صرحاً وكيـاناً زراعياً وإقتصادياً وتجارياً وإجتماعياً وقومياً وتكافلياً مستقلاً ومتناميـاً.

مجلس إدارة مشروع الجزيرة وقانونه

لقد ضم مجلس إدارة مشروع الجزيرة فى عام 1975 وهـو فى قمة مجده ثلاثة عشر عـضواً يمثلون الوزارات ذات الصلة من زراعة ومالية ورى ومحافظة مع مندوب لهيئة البحوث الزراعية وثلاثة مناديب للمزارعين وممثل للعمال وآخر للموظفين وواحد من ذوى الخبرة بجانب المحافظ ونائبه الأول، مع حضور نواب المحافظ.

صدر قانون مشروع الجزيرة عند تأميمه فى عام 1950 وتمّ تعديل القانون فى 1960. وبتبعية مجلس الإدارة لمجلس الوزراء عن طريق الوزير المختص ألا وهو وزير المالية فى بادئ الأمر، لعل القصد كان منح المشروع صفة الإستقلالية الكاملة، إلا فيما يخص المسائل المالية وما يمس النواحى القومية.

وقد ظل يحكم المشروع وعلاقاته قانون سنة 1960 المعدّل والذى قضى بتبعية المشروع لمجلس الوزراء عن طريق الوزير المختص.

وقد جرت تعديلات طفيفة فى علاقات الإنتاج والتى تحوى قسمة عائد محصول القطن وحده على أثر ما طرأ من توسع أفقى ورأسى بين الثالوث المشارك. وحتى عام 1975 رسـا توزيع الأنصبة على ما يلى من صافى عائد القطن وحده :-

الحكومةالمزارعونالخدمات الإجتماعيةالحكومة المحليةالإدارة

36%49%3%2%10%

لقد قضى التوسع الإفقى والرأسى بإدخال محاصيل أخرى، بخلاف القطن والذرة، بالزيادة فى إستقلال مياه الرى، وبإلقاء أعباء متصاعدة على كاهل إدارة المشروع التى واكبت التطور والتحديث والتكامل والمكننة والتصنيع الزراعى، ورغم كل هذا فقد إنحصرت الشراكة فى القطن وحده وظل نصيب الإدارة كما هو 10% على أن تعمل الحكومة على سد أى عجز فى تغطية مصروفات الإدارة، لتصبح المحاصيل الأخرى من حق المزارع وحده.

إدارة المشروع

مع ما طرأ للمشروع من توسع أفقى ورأسى فقد أخذ التنظيم الإدارى يتوسع تدريجياً هو الآخر كمّـاً وكيفـاً إلى ان بلغ عدد العاملين من موظفين وعمال ما يزيد على الإثنى عشر ألفاً.

مع بداية السودنة وبتنظيم إدارى متواضع إستطاع الرواد الأوائل تحمل الأعباء فى مجالات الإنتاج والتنمية كما تركزت السلطات والتوجيه فى مكتب مساعد المدير العام للإدارة على النحو التالى:ـ

عند غياب المدير العام لحقبة طويلة من الزمان ومع التحرك النشيط لمساعـدى مساعد المدير العام للإدارة ومخاطبتهم المباشرة لمديرى المصالح بإسمه نجمت بعض المضايقات التى أمكن التغلب عليها بالتعاون الحذر بينما كان الآداء راقياً.
لقد أدخلت الكثير من التعديلات ولإصلاح الخلل احياناً بوجود مدير عام، وأخرى بإعادة تقييم المصالح وترفيعها فى مواكبة لما إزداد من حجم فى الأعباء والمسئوليات والأنشطة.

ولمّا بلغ المشروع قمة مجده وإذدهاره أخذ الهيكل التنظمى شكله المتوسع فى 1975 بقرارمن مجلس الإدارة وتأييد الوزبر المختص (وزير الزراعة) على نحو ما يلى :ـ

هذا وقد شهد المشروع توسعاً مواكباً فى هياكله الأساسيه من منشآت ومحالج وورش وآليات وناقلات وعربات وجرارات.

وكانت تهدف الخطه السداسيه آنذاك 77/ 1978 – 82/1983 إلى:-
التنمية الرأسية
التصنيع الزراعى
إدخال الحيوان
التثوير الاجتماعى

ولذلك جاء التوسع فى الهيكل الإدارى لمواجهة ما هو متوقع من تعبئه نحو ثورة زراعية وأخرى صناعية فائقتى الاهمية - هيكل يقوم على التخصصات من إدارة وهندسة وتصنيع وزراعة ومالية على رأس كل منها نائب للمحافظ بجانب النائب الأول للشئون الإداريه، على أن يشكل المحافظ ونوابه مجلس المحافظ للتخطيط.

الهندسة الميكانيكية

يركز هذا الجزء من مشروع الجزيرة بين الحق والحقيقة على دور الهندسة الميكانيكية ودور المهندس السودانى فى تنمية وتحدبث مشروع الجزيرة العظيم.

وقد كان للهندسة الميكانيكية دور "ديناميكى" فى الرئاسة وعلى إمتداد الغيط يمكن تلخيصه فى مسئولية جلب وتشغيل وصيانة والمحافظة على كل الماكينات والآليات العاملة فى المشروع، عدا ما يخص القطاع الخاص. تراعى الهندسة الميكانيكية النظم والمواصفات الهندسية وتتبع سياسات محكمة ومقيدة لنظام ولوائح ومواقيت لمقابلة كافة متطلبات المشروع وعملياته، فهى مسئولة إدارياً ومالياً وفنياً عن كافة الأنشطة فى هيكلها الهرمى كما تقع عليها المسئولية الفنيه على المحالج وسكك حديد الجزيرة.

وقد كان تنظيمها الإدارى حتى 1975 كما يلى :-

 

 

 

ميزانية الهندسة الميكانيكية

يتم إعداد ميزانية الهندسة الميكانيكيه بالتعاون مع الأقسام سنوياً وتراجع فى مستوى المحافظ بحضور رؤساء المصالح الاخرى. ثم تجاز فى مجلس الإدارة لتعتمد مع ميزانية المشروع لدى الوزير المختص. يقوم كل قسم بتنفيذ الجزء الخاص به من الميزانية تحت المتابعة المتواصلة من الرئاسة حتى لا يقع هنالك أى تجاوز سواء أن كان فى ميزانية التنمية أو الجارية التى تشمل كل بنود الصرف للصيانة والتشغيل بما فى ذلك الأجور والرواتب وصولاً للأهداف المعنية.

لا أذكر أننى فى موقع الباشمهندس الميكانيكى سبق وقّعت على شيك مالى أو مسكت على نقد لتصريف الاعباء، بل عادة ما يصدر طلب شراء فى أورنيك مُعد مُبيّن عليه الغرض والمواصفات مع المصدر والقيمة التقديرية إما من الأقسام أوالرئاسة. ويأخذ طريقه بعد مراجعته إلى مصلحة الإمدادات التى تتعامل مباشرة مع الأسواق فى الداخل والخارج وفق نظام مقيد باللوائح. إلى وقت طويل قبل إنهيار سعر صرف الجنيه السودانى والذى كان آنذاك يساوى ثلاثة دولارات، كان يتم الشراء المباشر "Direct Purchase" لأى سلعة أو قطع غيار لِمَا تقلُّ قيمتُهُ عن إثنين ألف جنيه سودانى ـ وما زاد يخضع للمناقصة التى تشتمل على عدة عروض تخضع للمنافسة القائمة على وجهة النظر الفنية للهندسة الميكانيكية وعلى القيمة التجارية للجنة العقودات الممثّل فيها الهندسة والإمدادات والمالية والزراعة، ثم تصديق المحافظ – وما زاد إلى حد معين تتم إجازته بواسطة الوزير المختص. ثم يصدر أمر الشراء من الإمدادات. ما هو متعارف من ماكينات وآليات يخضع عند تغيير النوع لتجارب دقيقة لقطعتين من كل نوع على مدى موسمين أو ثلاثة تشتمل على الآداء والتكلفة، وينطبق ذلك على الجرارات والعربات الى آخره. وفى ضوء ذلك وبناء على العدد العامل منها تُحدّد الإستوكات فى المخازن بالحدّيْن الأقصى والأدنى إلى آخره وتصدر الأوامرلتغطية المستهلك تلقائياً. ومع إمكانية تطبيق النظام حسب اللوائح لم يحتاج الباشمهندس الميكانيكى التوقيع على أورنيك سحب قطعة غيار أو حتى لستك إسبير لعربته من المخازن ذلك أن رئيس القسم بميزانيته مخوّل بصفه نهائية، وأن المخازن تتبع لمصلحة الإمدادات. وفى المقابل لا يستطيع مديرالإمدادات أو المدير المالى أو حتى المحافظ التوقيع لإستخراج أى قطعة أو مجرد التدخل فى شئون الأقسام بالمشروع أو فى تقديم طلب الشراء.

يمكن القول بأن مشروع الجزيرة كان مستقلاً إستقلالاً كاملاً فى توجيه أنشطته لتحقيق أهدافه وفى تصريف أعبائه وتنفيذ ميزانياته، وبالأخص قبل نقل التبعية لوزير الزراعة بدلاً عن وزير المالية كوزير مختص. وكان للموظف فى المشروع كامل الحرية للإبتعاد عن العمل السياسى. وكان معظم العاملين عدا ما ندر يفضلون الإستقلال عن العمل السياسى والتحزُّب ليتفرغوا لمهنهم، بل كان ذلك شأن كل العاملين فى الخدمة المدنية إلى الوكيل الدائم للوزارة.

أذكر أن وزير المالية المختص زار بركات وقضى ليلته مع أحد أصدقائه الذى صدف أن كان صديق لى ـ رحمهما الله. فكلف صديقه أن يحضرنى إليه ـ ولمّا رفَضْتُ الطلب لم أُصاب بأذى أو أفقد مكرمة.

كما أذكر أن بروتكولاً يقضى بإدخال مئات الجرّارات الخفيفة للقُطْر تمّ توقيعه فى الخرطوم وخصّص لمشروع الجزيرة عدد إثنا عشر تراكتر منها. وإكتفت إدارة الجزيرة حسب نظامها بتجربة جرارين فقط. وكان لها الحق فى تحفظها حسب النتائج السالبة.

وهنالك الكثير من الأمثلة التى أوقفت التغول وكسر الإستقلالية إلى أن أصبح المشروع مباحاً فيما بعد وفُتِحَت جميع منافذه عبر إستراحة بركات. ومن الخرطوم أو الخارج مباشرة جاء من يحمل القرار ويبث الفتنة بين الثالوث الشريك سراً وعلانيةً مع غيرهم. وكأنما لا يوجد كون آخر ولا أقول كياناً لتعميره والإستثمار فيه – ولا أقول لأستثماره بل للأستثمار فيه تفادياً للخلط الذى أعاق الكثير من أصحاب الأراضى خارج الدورة الزراعية فى الجزيرة بالذات عند التجديد للمدة المنصوص عليها فى عقد الإيجارة وشجّع على التهديد غير المبرر بالنزع لإستيفاء الميزانيات من غير تقديم أى خدمة أو بنيات تحتية فى المقابل، فلا الأرض إسْتُغِلَّت ولا نجح الإستثمار.

لقد كانت طبيعة العمل متشعبةً مع تنوع الأنشطة كما كانت المسئولية المالية كبيرة الحجم للسلع الرأسمالية وفى الميزانية الجارية، ويتبعها تشعب فى العلاقات الأفقية والرأسية. وقد فاق عدد المهندسين والفنيين المائه وعشرين وعدد العمال الموزعون على الأقسام الألفين عامل فنى. فهم جميعهم يخضعون للتقييم المستمر ويواكبون المعرفه والتطور التكنولوجى. وكان لهم فى بركات معهد للتدريب المهنى بصفة عامة ولرفع كفاءة سايقى العربات بصفة خاصة.

مسئوليات رئيس كل قسم محدّدة ومعلنة وجميعهم يلتقون فى الإجتماع الشهرى بمكتب الباشمهندس الميكانيكى للتنسيق ومعالجة ما يطرأ من مسائل فنية وإدارية ومالية.

العمر الإفتراضى للآلة محدّد ويتم الحكم عليها عندما يصبح تشغيلها غير إقتصادى (صيانتها) بالتخريد أو التلجيين بواسطة رئيس المصلحة وفى ذلك الحين تكون قيمتها الدفترية مستهلكة بالكامل. وعندها يحق بيعها كخردة حسب نظام محكم. ويحق تدبير البديل لها أحياناً مسبقاً وهو مضمن فى الميزانيات الرأسمالية السنوية. كل ذلك مرصود فى سجلات الهندسة والمالية وفى غاية الدقة. وما كان لآلة أو عربة أو جرار لتخرج إلا بإذن ومن مكان معلوم. كما يمكن أن تصبح الآلة غير عاملة لعدم وجود قطع غيار من المصدر"Obsolete" .

كان عدد العاملين بالرئاسة فى مكتب الباشمهندس على نحو مايلى :-
الباشمهندس، م/الباشمهندس، كبير مهندسي الغيط، كبير مهندسي الورش، المهندس الميكانيكى للرئاسة، الباشكاتب ويعاونه أربعه من الكتبة ـ إجمالى عشرة فقط بالمركز. ويعمل الباقون على نهج اللامركزية بالأقسام الأخرى فى الغيط وحواليه. ويتحرك مهندسو الرئاسة بالمتابعة والإستبقاية. وكانت العلاقة الودية ـ الطِيبة والكلمة الحبيبة هى السائدة.

لقد عايشت الهندسة الميكانيكية السودنة والتأميم وأسهمت مباشرة فى:
التنمية الأفقيه بإضافة إمتداد المناقل
التنميه الراسية بإدخال التكثيف والتنويع
وإرتادت مجالات: التحديث والمكننة والتصنيع والتعديل ونقل التكنولوجيا.

لقد مُورِس التحديث فى مجالات عدة فى مقدمتها المحالج بمارنجان والحصاحيصا ... ...

..البقية تحت الطباعة..